الجمعة، 13 ديسمبر 2019

"أبو الوفا".. هز القلوب بشعره


"أبو الوفا".. هز القلوب بشعره

منذ أن قرأت عن الشاعر المصري الكبير محمود أبوالوفا في أواخر المرحلة الجامعية في الجامعة الإسلامية في المدينة المنيرة وأنا أشعر بالذنب إزاء هذا الشاعر الذي عانده الحظ، ووقف ضده كل شيء، وحاربه كل أحد، فهو شاعر أعرج يمشي على عكازين وعقيم وفقير ويتيم، وكأن حياته كانت بؤس يمشي على عكازين.. وقد وصف بعض البؤس في أبيات كتبها للشاعر حافظ إبراهيم عندما ترجم الأخير رواية البؤساء لفيكتور هوغو، فشعر الشاعر أبوالوفا أنه لا داعي لهذه الترجمة ولا حاجة لاستقدام البؤس من الخارج عبر "كفيل مصري" طالما أن -البؤس- يمكن "توظيفه" من خلال هذا البائس المصري الذي يقول مخاطباً مترجم الرواية:
يا صاحب البؤساء، جاءك شاعرٌ
يشكو من الزمن اللئيم العاتي
لم يكفه أني على عُكّازةٍ
أمشي فحط الصخر في طُرقاتي
ثم انثنى يُزجي علي مصائباً
سُحباً تقصعان الدجى جهماتِ
فغدوت في الدنيا، ولا أدري: أمن
أحيائها أنا أم من الأموات
* ثم يخاطب صاحب الرواية "هوغو" قائلا:
خفّفت يا "هوغو" عليك فلم أطل
وبعثتها فصلين من مأساتي
ولو أنني أعطيت بؤسي حقه
وصفاً، لصوَّر معرض النكباتِ
والحقيقة أن حبي لهذا الشاعر تأخر كثيراً في تلك المرحلة، والسبب أنني كنت أعشق فتاة في الحي شيمتها الحُسن، وكان ينافسني في حبها شاب أرعن وأكثر وسامة مني وأكثر رياضة يُسمى "أبوالوفا" لهذا كان التشابه بين الاسمين عاملاً من عوامل البعد لا القرب بيني وبين هذا الشاعر الحزين!
والآن وأنا أكتب عن شاعرنا "محمود أبوالوفا" أشعر بتقصير كبير وإهمال وفير، لأن مثل هذا الشاعر يجب على كل حر أن يتعاطف مع مأساته، بل يعادي من عاداه وسأذكر شيئاً من معاناته التي لملمتها من المصادر!
تقول المصادر إن الشاعر ولد في محافظة "الدقهلية" بدلتا النيل في غفلة من الزمن –مثلي تماماً- لهذا لم يُسجل تاريخ ميلاده في سجلات الدولة واعتبر من "سواقط القيد" إلى أن جرى "تسنينه" بعد ذلك بسنوات طويلة.. وهذا ما حصل بالتمام معي وقد ذكرت ذلك بمقال سابق!
وعندما بلغ الشاعر النبيل العاشرة من عمره أُصيب بعلته في ساقه اليسرى، لذا قرر الأطباء بتر ساقه من منتصف الفخذ، فأصبحت العكازة رفيقة عمره طوال سبعين عاماً.. وفي هذا البتر تأثر أبوه لهذا القرار فتوفي الأب في اليوم الذي أجريت فيه جراحة بتر الساق!
بعدها أظلمت الدنيا في وجه الفتي الذي لا يملك من الدنيا إلا عُكَّازه الذي يُعينه على السير في حياة لا تطيع إلا الأقوياء، وكان الخيار بين أن يعمل أو يدرس، فاختار لقمة العيش المُرَّة وهجر الفصل وحروفه وحصصه ومواده، ليعمل وهو صبي في حِرف متواضعة مثل بيع الفول المدمس وغير المدمس، ويخدم أحياناً في المقاهي، "مُنزِّل طلبات"، حتى استقر إلى حرفة بيع السجائر وما إلى ذلك من حرف المتعبين!
كان شاعرنا كلما استبد به التعب وأدركه الملل انصرف للقراءة التي كانت هوايته الأولى والأخيرة، وبدأ في هذه المرحلة يكتب الشعر، ليكتب قصيدته الأولى بعنوان: "الإيمان"، وتُترك في جيبه "المتسخ" ثلاث سنوات لا يدري ماذا يعمل بحروف ضائعة كضياعه في الحياة!
حقاً.. وأنا أقرأ سيرة هذا الرجل.. نزفت دمعة من عيني رغم ما أعرفه عن نفسي من صلابة القلب وجمود الدموع وتكلس العواطف!
حسناً لنكمل القصة.. بقيت القصيدة في جيبه ثلاث سنوات وصادف أن عمل في مطعم فول قرب "دار المقتطف والمقطم"، فقصد الدار رغبة في نشر هذا النص الذي تهلهل من جرَّاء بقائه في جيب "جرسون فوال"، عندها قاده بواب الدار إلى الرجل الصحفي النبيل فؤاد صروف (1900- 1985) الذي أعجب بالقصيدة إعجاباً كبيراً ونشرها فوراً!
بعدها عرف الشاعر أن قدره أن يكون ممن يحترفون "حرفة الأدب" وهي حرفة لا تختلف كثيراً عن حرفة "بيع الفول"!
وهذا المجال –أعني المجال الشعري- شجعه ليدخل ميدان "المسابقات الشعرية" التي "تُدسَّم" غالباً بالجوائز، فقد دخل أحد المسابقات بقصيدته التي سمعناها كثيراً من مطربين كبار من أمثال فوزي محسون وطلال مداح –رحمهما الله- ومحمد عبده –متعه الله بالصحة والعافية-، تلك القصيدة هي التي كتبها الشاعر أبوالوفا بعنوان: "تغريدة" ويقول في مطلعها:
صدّاحة الروضِ، ما أشجاكِ أشجانا
نُوحي بشكواك، أو نُوحي بشكوانا!
ومن جماليات الدنيا أن هذه القصيدة حصلت على المركز الأول، وعلى إثر ذلك أقيم حفل كبير في دار الأوبرا الملكية لتوزيع الجوائز، وكان من جملة الحاضرين شاعر الأمراء ومحتقر الفقراء أمير الشعراء أحمد شوقي بك، وحين نُودي على الشاعر الفائز، وبدأ شاعرنا محمود أبوالوفا يخرج من بين الجموع مرتدياً جلباباً أبيض ويتوكأ على عكازين، ويدب على الأرض إلى أن صعد إلى المنصة بصعوبة ليتسلم جائزة المركز الأول، عندها مال شاعر الأمراء أحمد شوقي على جاره وقال له ما معناه: (من سخرية الأقدار ألا يفوز بالجائزة إلا صاحب الجلباب والساق المبتورة)!
هذه مقولة تُوحي بأن صاحبها يحمل روحاً خبيثة ونفساً ملوّثة، وحين تناقلت العبارة حتى بلغت شاعرنا أبي الوفا الذي غضب غضباً أزرقاً، فما كان من شاعر الأمراء إلا أن أقام حفلاً في داره "كرمة ابن هاني" في الجيزة ودعا نفراً من بني ربيعة الأدبية، والتقطت الصور وأكرم شاعر الأمراء شاعر البؤس والشقاء، بل لم يتردد شوقي أن يكتب قصيدة في أبي الوفا قال فيها:
البلبلُ الغَرِدُ الذي هزَّ الربى
وشجى الغصونَ وحرّك الأوراقا
سبّاقُ غايات البيان جرى بلا
ساقِ، فكيف إذا استردّ السّاقا
امتدت يد البؤس في كل زاوية من زوايا حياة شاعرنا أبي الوفا، وكان ينظر إلى يديه المغلولتين عن فعل ما يريد ليقول في ذلك:
أريد، وما عسى تُجدي "أريدُ"
على من ليس يملك ما يريدُ!
وكان يحب الصراحة ولكنه يخاف عواقبها، لذا يلجأ إلى الكتابة، كما أنه يطمح إلى الفرح والابتسام، ولكنه يخاف من عاقبة الفرح، (إن الله لا يحب الفرحين)، ليقول في ذلك:
عهدُ الصراحة، ما بالُ الصريح به
لا يملكُ النطقَ إلا بالكتاباتِ
أحبُّ أضحكُ للدنيا، ويمنعني
أن عاقبتني على بعضِ ابتساماتي
ولكن بعد كل هذا مازالت مأساة الشاعر محمود أبوالوفا في بدايتها، وإليكم المزيد مما واجهه هذا الرجل المكافح "المدهش"!
فقد تنادى بعض النبلاء من أمثال الأديب العفيف وديع فلسطين الذي أدين له كثيراً في الكثير مما جاء في هذا المقال، لقد تنادى هو وطائفة من الذين يعرفهم ليكرموا الشاعر "أبوالوفا" في يوم "عيد العلم" وكانوا يأملون أن يُعطى الشاعر راتباً تقاعدياً يضمن له الحياة الكريمة، وبعد معاناة مع "المحسوبيات والروتين" كانت المفاجأة أن يُكرَّم الشاعر ويُمنح "وساماً جليلاً" لا يُسمن ولا يُغني من جوع، فلم يكن من شاعرنا إلا أن فكَّر أن يبله ويشرب ماءه..!
ويذكر الأستاذ النبيل وديع فلسطين أنه كتب للشاعر المهجري جورج صيدح يشرح له فيها أوضاع أبي الوفا، وكيف أنه يحتاج إلى الزاد اليومي وليس إلى النيشان الذي يقيد الشاعر أكثر من القيود التي يحملها في قدميه، فكتب الشاعر جورج قصيدة طويلة يقول فيها:
شرفُ الوسامِ لمن يبيتُ على الطوى
"صحن المدمس" كان منه أشرفا
واخجلة النيل الجزيل وفاؤه
إن لم يذقْ طعمَ الوفاءِ "أبوالوفا"
ولم تنته مأساة أبوالوفا عند هذا الحد، حيث منح جائزة "الجدارة" وقيمتها ألف جنيه من أكاديمية الفنون، ولكن هذا المبلغ لم يدخل جيب شاعرنا أبي الوفا، لأنه عهد في صرف الشيك إلى "ابن حلال" لعجز الشاعر عن الذهاب بعكازيه إلى المصرف، فاستحل ابن الحلال قيمة الشيك لنفسه، واكتفى الشاعر بالفوز بلقب "الجدارة" عن جدارة، كما يقول ذلكم أديبنا وديع فلسطين!
وعندما تقدم الشاعر أبي الوفا إلى الرئيس أنور السادات لتسلم جدارة الجدارة "السابقة"، سأله الرئيس إن كان في حاجة إلى أي شيء فقال له: يا سيادة الرئيس، إنني أقيم في منزل قديم متهالك يشبه الجحر، ويكاد ينهدم فوق رأسي، فهلا أمرت بمنحي شقة مريحة أقضي فيها بقية عمري؟ كما يروي ذلك معاصره الأديب وديع فلسطين، حينها أمر له الرئيس بشقة فوراً..!
ولكن الأمر بسبب الروتين الممل والبيروقراطية الصلبة لم يتحقق إلا بعد سنوات، ليُمنح أبوالوفا شقة في آخر الصحراء لينقطع فيها عن كل أصدقائه، وأترك أديبنا وديع فلسطين يُحدِّثنا عن هذه الشقة قائلا: (عندما رغبت في زيارته في بيته الجديد، غصتُ في الرمال، وذرعت المنطقة دون أن أهتدي إليه وقررت أن أعود أدراجي بخفي حنين.. ولكنني لمحت عاملاً من عمال البناء فسألته عما إذا كان قد شاهد رجلاً مبتور الساق يسير على عكازين، فدلني على مكانه الذي لم تمتد إقامته فيه إلا شهوراً معدودات لانقضاء أجله)!
بعد كل هذا.. لا تعتقد أيها القارئ -أو القارئة- أن مأساة الشاعر قد انتهت، حسناً.. هناك مأساة أخرى.. لقد سعى بعض أصدقائه لمساعدته في السفر إلى فرنسا لتركيب ساقاً تعويضية، على نفقة الدولة فتحدَّثوا إلى رئيس وزراء مصر –حينذاك- إسماعيل صدقي باشا (1875 – 1950) وطلبوا من أبي الوفا أن يكتب شعراً في مدح رئيس الوزراء، الذي كان يتمتع بكراهية لا حد لها من الشعب بسبب استبداده، -كما يصرح بذلك أديبنا وديع فلسطين- إلا أن أبي الوفا رفض قائلا: (إن التحية الآن معناها منافقة رئيس الوزراء، ولكنها بعد صدور القرار تعتبر شكراً واجباً، ولما صدر قرار سفره، وجه إلى الرئيس قصيدة شكر)!
ولكن يا فرحة ما تمت، لأن الساق الصناعية التي رُكِّبت، جاءت غير ملائمة له، الأمر الذي جعل ارتداء هذا الساق مصدراً جديداً لآلام جديدة، فما لبث أن خلعها غير مأسوف على فراقها!
وكل ما ذكر من مآسي في جهة –رغم فداحته- وما فعله الأدباء والمطربين –أصحاب الرومانسية المزيّفة- بأبي الوفا بجهة أخرى!
وللأمانة فإن الذين وقفوا بجوار شاعرنا في معاناته هم من غير المسلمين من أمثال: (وديع فلسطين، وفؤاد صروف، وجورج صيدح)!
وسأتناول أولئك الذين وقفوا ضده وحطموه فيما بعد، لأن الأمر يلح عليّ لاستشهد بقصة عجيبة بطلها الأديب سابقاً والإسلامي المؤدلج فيما بعد (سيد قطب) يرويها الأديب وديع فلسطين قائلا: (كتب الأديب سيد قطب رسالة موجهة إلى وزير المعارف يطلب فيها -عبر نداء عاجل- وضع حد لمأساة الشاعر أبي الوفا من خلال تعيينه على وظيفة استثنائية يُعفى خلالها من القواعد والمسوغات المطلوبة.. وطلب سيد قطب أن ينشرها عاجلة وكاملة قائلاً في آخر الرسالة: "إنها رسالة مكتوبة لتنشر لا لتختصر")!
سارت الرياح بما تشتهي سفن أبي الوفا الذي حصل على الوظيفة بعد استثنائه من المؤهل العلمي الذي لا يحمل شيئا منه، بل استثنى من شرط شهادة الميلاد لأنه لم يحصل عليها واستثنى من سلامة البدن لأنه يمشي على عكازين، وعرض الأمر على مجلس الوزراء لأنها من صلاحياته.. وتم الخبر حيث عُيّن على وظيفة باليومية في دار الكتب القريبة من منزله، ومع ذلك كان يصل إليها عبر معاناة المواصلات ومزاحمة الكتل البشرية إلى صعود درجات السلالم في الدار.. بعد كل هذا لا تفرح أيها القارئ.. فقد استقبل أبوالوفا مدير الدار الشيخ أمين الخولي وتسلط عليه وألزمه بدوام ولوائح وشروط ولم يراع صحة المذكور أو صعوبة حياته، حتى جاءت حكومة حزبية ثانية وألغت كل الاستثناءات فكان أبا الوفا أول الضحايا. ولا عجب في ذلك فقد قال شاعرنا نزار قباني: (أولى ضحايانا هُمْ الكُتَّاب)!
حسناً.. ولكن ما الظلم الذي حل بأبي الوفا من رفاق مهنته من أدباء ومطربين، يقال والعهدة على شيخنا وديع فلسطين أن الشاعر أحمد شوقي قبل وفاته أوصى نجليه (علي وحسين) بأن يعهدا إلى الشاعر أبي الوفا -مِن دون سواه- في الإشراف على نشر بقية أجزاء ديوانه "الشوقيات" وقام أبوالوفا فعلاً بالإشراف على نشر الجزء الثاني، ولكن محمد سعيد العريان بنفوذه لدى الناشر، انتزع من أبي الوفا هذه المهمة.. بل فعل أكثر من ذلك، ولهذا مقال آخر!
أما الظالم الثاني لأبي الوفا فهو المطرب -الذي يدعي الرومانسية- المُسمَّى محمد عبدالوهاب، فيروي لنا الأستاذ وديع فلسطين قصّة أبي الوفا مع عبدالوهاب قائلاً: (سألت أبا الوفا كم تقاضى عن قصيدته الجميلة "عندما يأتي المساء" التي غنّاها محمد عبدالوهاب في أحد أفلامه، -وكان يرتدي بزة السهرة ومن خلفه تتلألأ أضواء جسر قصر النيل منعكسة على مياه النهر في منظر بديع- ليجيب شاعرنا أبوالوفا عبر إجابة طويلة انتهت بقوله: أخرج عبدالوهاب من جيبه ثلاثة جنيهات لفّها كالسيجارة ثم دسّها في جيبي قائلاً: (متّع نفسك بمشروب على حسابي)!
ويستطرد أبوالوفا قائلاً: (كنت ذات مساء أستمع إلى المذياع وكان الضيف محمد عبدالوهاب فسأله المذيع عن أحب أغانيه لنفسه، فكان جوابه: "عندما يأتي المساء" للمرحوم محمود أبوالوفا.. فما كان من أبي الوفا إلا أن حاول الاتصال بالموسيقار هاتفياً، ولكن الخادم أجابه بأن الأستاذ ليس في المنزل، ثم استفسر عن المتصل فقال له أبوالوفا: عندما يأتي الأستاذ، قل له إن المرحوم أبا الوفا سأل عنه!! وعندئذ سقطت السماعة من يد الخادم على الأرض خوفاً من الميت الذي رجع إلى الحياة، والغريب أن الموسيقار "الرومانسي" لم يعتذر عن هذا الخطأ كما صرح بذلك الشاعر نفسه لوديع فلسطين.
وشاعرنا العذب أبوالوفا رثى نفسه قبل موتها بقوله:
في ذمة الله نفسٌ ذات آمال
وفي سبيل العُلى ذاك الدم الغالي
بذلته، لم أذق في العمر واحدة
من الهناء، ولا من راحة البال
إلى أن يقول:
كأنني فكرةٌ في غير بيئتها
بدتْ، فلم تَلقَ فيها أي إقبالِ
أو أنني جئت هذا الكون عن غلط
فضاق بي رحبُه المأهولُ والخالي
وهو هذا الذي يقول:
أحببتها.. أحببتها.. أحببتها
وأُحبُّ في الأيام يوم رأيتها
ووددتُ لو أني جمعتُ لها المُنى
وأتيتُ بالدنيا لها ووهبتها
إلى أن يقول وهو الذي يُمثِّل مأساة بشرية يقول برقة الشاعر المرهف:
والله لو بيدي، لما تُرِكَ امرؤٌ
ذو حاجة إلا له نوّلتُها!
إلى أن يعرّف بنفسه قائلا:
حسبي إذا الحب أضناني فمِتُّ هوى
أن يذكروني فقالوا: كان إنسانا!
وأخيراً مات الشاعر العظيم بعد أن كف بصره في أواخر أيامه، وقرر محافظ الدقهلية إقامة ضريح له ومسجد يطلق عليه اسمه، ومتحف يضم مخلفاته –من الملايين والعمائر والفنادق- وما هذه المخلفات إلا جلبابه الأبيض وفردة حذائه وساقه الصناعية ومجموعة عكاكيز وعويناته وطربوشه.. إلخ!
حسناً.. ماذا بقي..؟!
بقي القول إن كل هذا العناء والبؤس الذي مر به الشاعر مقبول لأنه لا دخل للشاعر فيه، ولكن ما يؤلم النفس ويتعب القلب أن هذا الشاعر لم يعذبه سياسي أو رجل أمن غليظ، أما من عذبه وحطمه وأقصاه من النجاح وحاربه هو رجل كبير يعتبره "السطحيون" رائد التنوير ومؤسس الثقافة، إنه الدكتور طه حسين الذي لم يقدر على الخصوم الكبار من أمثال العقاد والدكاترة زكي مبارك، فأخذ ينال ويحطم ويشتم ويسفه الشاعر "محمود أبوالوفا"!
طه حسين –ليس غيره- الذي قال عنه "الملاكم الأديب" زكي مبارك: (لو جاع أطفالي لشويت طه حسين وأطعمتهم من لحمه، إن جاز أن أقدم إلى أطفالي لحوم الكِلاب)، لم يرد طه حسين على الدكاترة زكي مبارك بل تسلط على المسكين أبوالوفا.. وهذه من مزايا المجتمعات الفاسدة التي لا تقع فيها السقيفة إلا على الضعيفة!
طه حسين الذي يمجده السُّذج، لم أقع يوماً في أسر أدبه، لأن ناقدنا الكبير مارون عبود حذَّرنا منه قائلاً أنه "أعمى بصر وبصيرة"، لذلك هو يتسلط على الضعفاء من أمثال شاعرنا أبوالوفا والمطربة الصاعدة نجاة الصغيرة وغيرهما ممن لا بواكي لهم ولا عاصم!
ولله در الأديبة الذكية مي زيادة فقد رددت أبيات ذات يوم على مسامع طه حسين من دون أن تذكر اسم الشاعر فطرب طه حسين لهذه الأبيات وأصر على أن يعرف صاحبها، فقالت له مي: إنها للشاعر محمود أبوالوفا حينها غضب طه حسين أو من يسميه السفهاء "عميد الأدب العربي"، ولا عجب أن يضيع الأدب طالما أن مثل هذا "المتعصب الأرعن" هو عميده.. الذي بدلاً من تشجيع المواهب أخذ يحطمها، وبدلاً من أن يسمح بحرية الرأي أخذ يحارب من يمارسها.. الأمر الذي يطرح سؤالاً كبيرا مفاده: هل السياسي من يحارب "حرية الرأي" أم المثقف المختبئ خلف أدلجته؟!.

أحمد عبدالرحمن العرفج
T: Arfaj1
Arfaj555@yahoo.com


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

لكُلِّ مثابرٍ نصيب.. مِن دأب النجيب!