الآخَر فِي
جُدَّة ..!
عِنْدمَا
يَقرأ الإنسَان الكُتب يَخرج بحَصيلة لمُقارنةٍ مَا، أو لموازنَةٍ ما، أو يَصل إلى
أمر لَم يَكن ليَصل إليه لَولا هَذه القرَاءة.. ومِن العَادات التي أُمارسها،
واحرِص عَليها، قِرَاءة الصّحف أو الكُتب أو المُؤلَّفات القَديمة، لأرَى أين
وَصلنا، إذ لا يُمكن أن تَعرف عُمرك الحَقيقي؛ إلَّا إذَا كُنت تَعرف تَاريخ
ميلادك!!
ومَتى
قَرأتَ الأمْس، عَرفتَ أين أنتَ اليَوم، وقَد قَال شَاعرنا المُتنبِّي:
"وبِضِدّها تَتَبيّن الأشيَاءُ"!!
إنَّ
المُتتبّع لأحوَالنا اليَوم، ومَوقفنا مِن المُخالف، ونَظرَتنا إلى الغَريب، يُدرك
أنَّنا نَتميّز بنَظرة تَزداد ضِيقاً يَوماً بَعد يَوم، بَل مِن الوَاضح أنَّنا نَسير
إلى الوَراء في قبُول الآخر والتَّرحيب به.. ومَا كَان مَسموحاً به في الأمس أصبَح
اليَوم في قَائمة المَحظُورات.. وكأنَّنا نَتراجع.. مِثل ذَلكم الذي كَان فِي
السَّابق يَحتفل بزراعة شَجرة، فأضحَى اليَوم يُقيم مُؤتمراً لمُكافحة
التَّصحُّر.. ومُحاربة الجَفاف!!
لقد
أصبَح الهَامش اليَوم في قبُول الآخر أكثر ضيقاً مِن الأمس -رَغم أنَّنا فِي عَصر
الاتصالات والتَّوَاصُل-.. لَن تَجد أكثر دِقَّة مِن كُتُب الرَّحَالة في هَذا الصَّدد،
حيث تَرسم صُورة جَليّة عَن هَذا التَّعايش، والتَّرحيب بالوَافد والقَادِم مِن
الجهات الأربع!!
وفي
كِتَاب "قَافلة الحبر"، الذي تَرجمه الأستاذ سمير عطا الله، يَذكر المُؤلِّف
نَصًّا فِي ص 127 للرحَّالة بورك هَارت، الذي زَار جُدَّة -بضم الجيم- فِي القَرن
الثَّامن عَشر حيث يَقول: (وسُكَّان جُدَّة -كسُكَّان مَكة والمدينة- أغراب
كُليًّا تَقريباً.. أمَّا أبناء العَرب القُدمَاء الذين سَكنوا المَدينة مِن قَبل،
فقَد قضوا عَلى أيدي الحُكَّام، أو لَجأوا إلى بُلدانٍ أُخرى!!
أمَّا
أولئك الذين يُمكن أن يُوسموا بالسُّكَّان الأصليين، فعَائلات قَليلة فَقط مِن
الأشرَاف، وكُلهم عُلماء، عَلى صِلَة بالمَساجِد، أو بمَحَاكِم الشَّرع!!
إنَّ
جَميع أبنَاء جُدَّة الآخرين أغرَاب، أو مُنحدرون مِن أغرَاب...)!!
هَكذا
تَشكَّلت جُدَّة، وهكذا هي "فسيفساء بشرية ملوّنة"، حَفلة مِن الدِّمَاء
المُختلفة، كأنَّها قوس قَزح يَتلألأ ضياءً وتجدداً!!
إنَّ
التّعايش مِن أهم المَبادئ التي تُساهم في استقرار الشّعوب، وهو الحَل السّحري للشّعوب
المُختلطة، أمَّا الحوار فَهو خطوة قَد تَحتَمل النَّجَاح، وقَد تَحتَمل
الإخْفَاق، لأنَّه يَقوم عَلى مُحاولة "إقنَاع الخصم أو مُغالبته، في حين أن
التّعايش يَقوم عَلى "التَّجاوز ومُراعاة اختلاف الغير"!!
في
النّهاية.. مَاذا بَقي؟!
بَقي
القَول: إنَّ الصَّمت أحياناً يَكون أبلَغ مِن الكَلام!!.
أحمد
عبدالرحمن العرفج
Arfaj555@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق