النَّفس الجَوعَانَة لامتِلَاك المَرأة والبَاذنْجَانَة ..!
إكرَاماً لروح شَيخنا العَلَّامة الأديب "علي الطنطاوي" –رحمه الله- فإنَّني سأمنَح – كَما تُمنح الأرَاضي- هَذه الزَّاوية اليَوم؛ لتَكون مَجالاً لنَشر قصَّة مُؤثِّرة، رَوَاها هَذا الشَّيخ الأديب في مُذكّراته.. يَقول الشَّيخ "علي" تَحت عِنوَان "المَرأة والبَاذنجَانَة":-
في دمشق مَسجد كَبير اسمه جَامع التَّوبة، وهو جَامع مُبارك فيهِ أُنس وجَمَال، سُمِّي بجَامع التَّوبة لأنَّه كَان خَاناً تُرتكب فيهِ أنوَاع المَعاصي، فاشترَاه أحد الملوك في القَرن السَّابع الهجري، وهَدمه وبَنَاه مَسجداً..!
وكَان فيهِ -مُنذ نَحو سَبعين سَنة- شَيخ مُربٍ عَالِم عَامِل اسمه الشَّيخ "سليم السيوطي"، وكَان أهل الحي يَثقون بهِ، ويَرجعون إليهِ في أمور دِينهم وأمور دُنياهم، وكَان هُناك تلميذ مَضرب المَثَل في فَقرهِ وفي إبائهِ وعزّة نَفسهِ، وكَان يَسكن في غُرفة المَسجد..!
مَرّ عَليه يَومان لَم يَأكل شَيئاً، ولَيس عندَه مَا يُطعمه، ولا مَا يَشتري بهِ طَعاماً، فلمَّا جَاء اليَوم الثَّالث أحسَّ كأنَّه مُشرف عَلى المَوت، وفَكَّر مَاذا يَصنع، فرَأى أنَّه بَلَغ حَدّ الاضطرار، الذي يَجيز لَه أكل المَيتة أو السَّرقة بمقدَار الحَاجة، وآثر أن يَسرق مَا يُقيم صُلبه..!
يَقول "الطنطاوي": وهَذه القصَّة وَاقعة أعرف أشخَاصها، وأعرف تَفاصيلها، وأروي مَا فَعَل الرَّجُل، ولا أحكم بفعلهِ أنَّه خَير أو شَرّ، أو أنَّه جَائِز أو مَمنوع..!
وكَان المَسجد في حي مِن الأحيَاء القَديمة، والبيوت فِيها مُتلاصقة، والسّطوح مُتّصلة، يَستطيع المَرء أن يَنتقل مِن أوّل الحي إلى آخرهِ مَشياً عَلى السّطوح، فصَعَد إلى سَطح المَسجد، وانتقل مِنه إلى الدَّار التي تَليه، فلمح بها نِسَاء، فغضَّ مِن بَصره وابتعد، ونَظَر فرَأى إلى جَانبها دَاراً خَالية، وشمّ رَائحة الطَّبخ تَصدر مِنها، فأحسَّ مِن جَوعه -لَمَّا شَمَّها- كَأنَّها مَغناطيس تجذبه إليها، وكَانت الدور مِن طَبقة وَاحدة، فقَفَزَ قَفزتين مِن السَّطح إلى الشُّرفة، فصَار في الدَّار، وأسرَع إلى المَطبخ، فكَشَف غطَاء القدر، فرَأى بها بَاذنجاناً مَحشوًّا، فأخذَ وَاحدة، ولَم يُبال مِن شدّة الجوع بسخُونَتِهَا، عَضّ مِنها عَضَّة، فمَا كَاد يَبتلعها حتَّى ارتد إليه عَقله ودِينه، وقَال لنَفسه: أعوذ بالله، أنا طَالب عِلْم مُقيم في المَسجد، ثُمَّ أقتحم المَنازل وأسرق مَا فِيها..؟!
وكَبر عَليه مَا فَعل، ونَدَم واستغفَر وردَّ البَاذنجَانة، وعَاد مِن حيثُ جَاء، فنزل إلى المَسجد، وقَعد في حَلقة الشَّيخ، وهو لا يَكاد -مِن شدّة الجوع- يَفهم مَا يَسمع، فلمَّا انقضَى الدَّرس وانصرف النَّاس، جَاءت امرأة مُستترة، ولَم يَكن في تِلك الأيَّام امرَأة غَير مُستترة، فكَلَّمت الشَّيخ بكَلامٍ لَم يَسمعه، فتَلفَّت الشَّيخ حَوله فلَم يَر غَيره، فدَعَاه وقَال لَه: هَل أنتَ مُتزوّج..؟! قَال: لا، قَال: هل تُريد الزَّواج..؟! فسَكَت، فقَال لَه الشَّيخ: قُل هَل تُريد الزَّواج..؟! قَال: يا سيّدي مَا عِندي ثَمن رغيف والله، فلمَاذا أتزوّج..؟!
قَال الشَّيخ: إنَّ هَذه المَرأة أخبرتني أنَّ زَوجها توفّي، وأنَّها غَريبة عَن هَذا البَلَد، لَيس لَها فيهِ ولا في الدُّنيا إلَّا عَم عَجوز فَقير، وقَد جَاءت بهِ مَعها -وأشَار إليهِ قَاعداً في رُكن الحَلقة- وقَد وَرثت دَار زَوجها ومَعاشه، وهي تُحب أن تَجد رَجُلاً يَتزوّجها عَلى سنَّة الله ورَسوله، لَئلا تَبقى مُنفردة، فيَطمع فيها الأشرَار، وأولاد الحَرام، فهَل تُريد أن تَتزوّج بها..؟! قَال: نَعم.. وسَألها الشَّيخ: هَل تَقبلين بهِ زَوجاً..؟! قَالت: نَعم.. فدَعَا بعمّها ودَعا بشَاهدين، وعَقَد العَقد، ودَفع المَهر عَن التّلميذ، وقَال لَه: خُذ بيَدها، وأخذت بيَده، فقَادته إلى بَيتهِ، فلمَّا أدخلته كَشفت عَن وَجهها، فرَأى شَباباً وجَمالاً، ورَأى البَيت هو البَيت الذي نَزله، وسَألته: هَل تَأكل..؟! قَال: نَعم، فكَشفَت غطَاء القدر، فرَأت البَاذنجَانة، فقَالت: عَجباً مَن دَخل الدَّار فعضّها..؟! فبَكَى الرَّجُل وقَصّ عَليها الخَبَر، فقَالت لَه: هَذه ثَمرة الأمَانة، عَففت عَن البَاذنجَانة الحَرَام، فأعطَاك الله الدَّار كُلّها وصَاحبتها بالحلال..!
حَسناً.. مَاذا بَقي..؟!
بَقي القَول: رَحمك الله أيُّها الشَّيخ، فقد كُنتَ لجِيلي -ولجِيل مَن سَبقني- مِن شروط رَمضان..!!!
أحمد عبدالرحمن العرفج
Arfaj555@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق