حرفة
الكتابة!
الكتابة مهنة يجب أن توضع في إطارها الفعلي،
لأن أهلها يُجلون فعلها، ويُكبرون ممارستها، وكأنها مهنة البشر الاستثنائيين، لأن
المهن كلها أصعب فعلاً، وأتعب إنتاجاً، وأشد وطأة، وأقوم قيلاً!
والمهن كلها – ما عدا الكتابة – تتطلب جهداً
عضلياً، وإطراقاً فكرياً، لا يتوفر في حملة القلم وأصحاب الفكر!
يقول محمد الماغوط: (في طفولتي حاولت أن أصير لحاماً ففشلت، لأنني كنت آكل أكثر مما أبيع، وحاولت أن أصير خياطاً
ففشلت، لأنني كنت أغرز الإبر في لحم الزبون أكثر مما أغرزها في ثيابه، وحاولت أن
أصير رياضياً ونجماً في كرة القدم ففشلت لأنني كنت أعتقد بأن هناك أشياء كثيرة يجب
ركلها بالقدم، قبل تلك الكرة المطاطية البائسة! وحاولت أن أصبح مطرباً شعبياً
ففشلت، إذ قالوا لي بأن حبالي الصوتية تصلح لشحن البضائع، لا لشحن العواطف
والأحاسيس! ثم حاولت أن أعتزل الدنيا وأصير متصوفاً أتعبد ربِّي ففشلت، لأنني لم
أكن أملك من كل الأراضي العربية، ولو مساحة جبيني لأركع عليها وأصلِّي! وأخيراً
حاولت أن أصير زعيماً سياسياً يتبعني اللحام والخياط والمطرب والرياضي والمتصوف،
فلم يتبعني سوى المخابرات)!
ماذا فعل الماغوط بعد كل
هذا الفشل المهني الطويل؟!
اتجه إلى كتابة الشعر،
وأخذ ينفق على (بطالة الشعر) من عرقه وكدحه، وخاطب الشعر بلغة المنة والتفضل
قائلاً: (أيها الشعر في أيام كثيرة وأنا بحاجة إلى من يطعمني أطعمتك، وإلى من
يؤويني فآويتك، وجففتك بلساني من الوحل والمطر والدموع، كما تفعل البهيمة مع
وليدها)!
إن الكتابة بمفهومها
اأتعبلضيق، مطرودة من الواقع، ساكنة مجامع اللغة، تقيم في مخيمات مؤقتة في أنحاء
المدن وضواحي المدارس والجامعات، لذا سكنت الكتابة ومشتقاتها من شعر ونثر وقصة
ومسرح في دموع الماغوط، وغمرت وجهه ودفاتره، لأنه كان مؤمناً بأهمية الكتابة،
وجدوى رسالتها!
ويمكن أن يُقبل قول
الماغوط إذا كان احتراف الشعر والكتابة لغاية التسول، مثلما كان العالم البيروني
يقول: (اشتغلت بالرياضة وعلم الفلك عشرين عاماً، وكانت حصيلتي منها قرص خبز في
اليوم، ونظمت يوماً قصيدة مدحٍ فكانت حصيلتي منها ألف دينار)!
إن الكتابة سلاح الضعفاء
من أمثال الشاعر السنغالي سنقور الذي قال: (لا أملك أي سلاح في وجه الأيام سوى
الكتابة)!
لا أظن أن الكتابة عملية تعرية، أو فضيحة كبرى، لأن من يملك مقومات
الكتابة يترك الحروف تتدلى عليه كثمرة تفاح ثقيلة في عقله، تسقط نضوجاً واستواء،
ولكن صلاحيتها لا تتجاوز اليوم أو اليومين، وسبحان من جعل المهن كلها أفضل من مهنة
الكتابة!
أحمد عبد الرحمن العرفج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق