التَّصوير في الشِّعر مِن بَقايا الفِكر الجَاهلي ..!
في زَمن الحِفظ والخَيبة، والأعين القَليلة، والحَجر والحَطب، والغُبار والخِيمة، كان الشِّعر أفضل "آلة تَصوير" للمَناظر، بشقّيها الأليم والجميل، والصَّحيح والسَّقيم.. وقد كَانت القصيدة خَير نَاقل، وأفضل مُصوِّر، لتَضاريس الأمكنة، وغَدر الأزمنَة..!
أمَّا الآن، فإنَّ التَّصوير بالقَصيدة، بمَعنى وَصف بَشاعة قَتل، أو رَسم صورة تَدمير، إنَّ هذا كُلّه مِن هَدر الوَقت، وإزعاج لجَماليّات الصَّمت..!
حَسناً.. أو لِنَقُل "عِموا صَباحاً".. لندخل في الموضوع:
يقول أهل الصِّين –وهم أهل الحِكمة والمَعرفة والوَعي-: (صورة وَاحدة تُعادل عَشرة آلاف كَلمة)!
لقد كانت "القَصائد" في زَمن الجَاهليّة، وما بَعدها مِن أزمنة، "آلة للتَّصوير"، أمَّا الآن فإنَّ "الكاميرا" بكُلِّ أنواعها، الرَّقميّة والعَاديّة، تَحلّ مَحل "التَّصوير في القَصيدة"، تَحلّ مَحلها بشَكلٍ مُذهل!
ولا يُبالغ القَلم حين يَقول: إنَّ الكاميرا أصدق –بألف مَرَّة– مِن تَصوير القَصائد، فحين نَقرأ بيت "عنترة العبسي"، حين يَتمنَّى تَقبيل السّيوف "المُلطَّخة بالدِّماء"، فقط لأنَّها تُشبه "شَفتي عَبلة" مَحبوبته الجميلة.. حيثُ يَقول:
فَوَدَدتُ تَقبِيلَ السّيوفِ، لأنَّها
لَمعَتْ كَبَارِقِ ثَغرِكِ المُتَبسّمِ
حَقاً ما الذي يَجعلنا نُصدِّق ذلك؟!.. أليس مِن المُحتمل أنَّ عنترة "يفك" أو "يهلّس علينا"، أو "يرمي طوب"، أو يَبيع علينا "أرانب"؟!، كيف لا.. ونَحنُ نَرى الشُّعراء في عَصرنا الحديث "مَجانين" في مَدح ذوي النّفوذ، بل يُصوِّرون أنفسهم وكأنَّهم ليسوا أكثر "مِن ضَحايا غَرام"؟!، مع أنَّ الحقيقة تَقول: إنَّ الله -جَلَّ شَأنه- عِندما وزَّع "حِصص الغَرام"، كانوا هُم مِن الغَائبين، فلا عَجب أن يَكونوا في أقوالهم مِن الكَاذبين!
أعرف أن قارئاً لئيماً -أو لئيمة- سيَقول حتَّى "الكاميرا" مِن المُمكن أن تَدخلها الدَّبلجة والفَبركة؟!، عندها سأقول لهذا الليئم -أو تلك اللئيمة-: صَدَقت، ولكن "الكَاميرا" لا تَفعل ذَلك؛ إلَّا إذا عَبَثَت بها الأنَامل البَشريّة، التي -هي نَفسها- تَكتب القَصائد.. ولا يُفلح العَابث حيثُ أَتى!
حَسناً.. مَاذا بَقي؟!.
بقي القول: إنَّ الشِّعر مَازال يَمتلك بَعض المَناطق، التي مِن المُمكن أن يَتألَّق فيها ويُبدع، فالقمّة تَتَّسع لـ"الكَاميرا" ولـ"الشِّعر" أيضاً، بشرط أن يَعرف الشِّعر حَجمه وقَدره، وأن يَلعب في أرضهِ وبين جمهوره، مِثل مَاذا..؟!، سأقول: مِثل تَصوير المَشاعر البَشريّة "اللا مرئيّة"، مِثل الذّكريات والحَنين، والظُّلم والخَوف والقَلق.. فمِثل هَذه المَناطق، لا تَصل إليها "الكَاميرا" الآليّة، ومَا ذَلك لقصور مِنها، بل لأنَّها تَعرف حدودها!
فمثلاً: أي "كاميرا" في العَالَم، لا تَستطيع تَصوير الظُّلم؛ الذي يَعتمل دَاخل النَّفس البَشريّة، ولكن شَاعراً بَارعاً مُتفوّقاً مِثل المُتنبِّي يُصوّره فيَقول:
والظُّلمُ مِن شِيَم النّفوس، فإن تَجد
ذَا عِفَّةٍ، فلَعلَّه لا يَظلمُ
وهُنا يَضع المُتنبِّي أصبعه عَلى جَرح الظُّلم، وأنَّه مِن خَصائص النَّفس البَشريّة، وأنَّ كُلّ مَن لا يَظلم هو عَاجز عَن الظُّلم.. مِثل هَذه الخَواطر والخَلجات، لا يُصوِّرها إلَّا آلة الإنسان اللسانيّة.. هَل يَكفي هَذا تَوضيحاً..؟! أظنّه لا يَكفي!.
أحمد عبدالرحمن العرفج
Arfaj555@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق