الحبر الأصفر
الأَعْرَاب.. وَرَدّ الجَوَاب ..!
من يُطالع كُتب الظُّرفاء وحكايات النَّوَادر في العصور القديمة، يُدرك أن المُجتمع كان يُمارس النُّكتة، والرُّدود المُؤثرة النَّابعة من الثَّقافة العَربيّة، التي كانت خَبراً يَوميّا لكُل طَبقات المُجتمع، فالمُتوِّسل مُثقَّف، وصَانِع الأحذية كَذلك، وأيضاً الحدَّاد.. بل إن أصحاب المهن اليدويّة هُم عُلماء من أمثال: الجَاحظ الذي عمل في البريد، والإمام الكسائي الذي يصنع الملابس، وبقيّة الأئمة والعُلماء الذين تدل أسماؤهم على مهنهم، من أمثال: السَّكاكي والباقلاتي، والجزَّار والحلَّاج، والنجَّار والدقَّاق، والجوهري.. الخ!!
وحتى يَكون كلامنا عن أنَّ الثَّقافة حق موجود عند الجميع تأمَّل القصّة التَّاليّة:
يُقال: "ألحّ سائل على أعرابي أن يُعطيه حاجة لوجه الله، فقال الأعرابي: والله ليس عندي ما أُعطيه للغير.. فالذي عندي أنا أولى النَّاس به وأحق.. فقال السَّائل: أين الذين كانوا يُؤثرون الفقير على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟!.. فقال الأعرابي: ذهبوا مع الذين لا يسألون النَّاس إلحافاً"!!
تأمَّلوا طريقة التَّسوُّل الرَّاقية والشَّواهد المُصاحبة لها!!
أكثر من ذلك قيل لأعرابي من عامَّة النَّاس: (ما يَمنعك من الغزو؟!.. فقال على الفور: والله إنِّي لأبغض الموت على فراشي.. فكيف أمضي إليه ركضاً؟!).
أليس هذا ردّ مُقنع!!
ومما يُروى.. أنَّ أعرابيّة "بائِعة غنم" كانت في السُّوق تبيع شاة، فقيل لها: بكم هذه؟.. فقالت: بكذا!! فقيل لها: أحْسني.. فتركت الأعرابيّة الشَّاة ومرَّت لتَنْصَرِف، فقيل لها: مَا هَذا؟!.. فقالت: لَمْ تَقولوا أَنقصي!! وإنَّما قُلتم أَحسني.. والإحسان تَرْك الكُلّ!!
انظروا.. "بائِعة غنم" ولكنَّها "جاحظيّة" في اللُغة، وعَالِمة في المُفردات ودلالاتها!!
ولو رُحنا نتتبَّع الشَّواهد والنَّوادر لامتلأ المَكان، ولكن حَسبك من العُقد "لؤلؤة".. ومن الدِّيوان "قَصيدة"!!
وتروي كُتب النَّوادر أنَّ (رَجُلاً من قُريش مَرّ بامرأة من العرب في البَادية، فقال: هل من لبن يُباع؟!.. فقالت المرأة بذكائها "الصّحراوي": (إنَّك لئيم أو قَريب عَهد بِقوم لِئام).. فاستحسن السَّائل ذلك منها وخطبها وتزوَّجها!!
وطالما فُتِحت "سيرة الزَّواج" فإن الأصمعي يروي قَائلا:
(رأيتُ بدويّة من أحسن النَّاس وجهاً، ولها زُوج قَبيح، فقُلت لها: يا هذه.. أترضين أن تكوني تحت هذا؟.. فقالت: يا هذا.. لعلَّه أحسن فيما بينه وبين ربه فجعلني ثوابه، وأسأتُ فيما بيني وبين ربي فجعله عذابي، أفلا أَرْضَى بما رَضي الله به؟)!!
وهذه امرأة من دهماء النَّاس وعوامهم، أفحمت الأصمعي الذي لم يُحاول أن يَصطاد في الماء العَكِر، بل عكَّر الماء ليَصطاد فيه، ولكنَّه خَاب.. وهكذا هو دائماً مصير كُل مُثقَّف وأديب!!.
أحمد عبدالرحمن العرفج
Arfaj555@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق