الشَّاعر الهُمام يُدخلك الحَمَّام ..!
بَعض الشُّعراء في مَشهدنا الثَّقافي لَيس رَديء الشَّاعريّة، بَل ثَقيل الدَّم والحسَ والإدرَاك..!
وقَد كُنتُ أَظنُّ أنَّنا نَحن –هُنا- فَقط مَن نُعاني مِن أُولئك الذين يُجبرونك عَلى سَماع شعرهم "البَاهت" رَغماً عَن أنفك، مِن خِلال تَبرّعهم بإلقَاء شعرهم أثنَاء الجَلسَات والنَّدوَات والاستراحَات..!
كُنتُ أَظنُّ أنَّنا مَن يُعاني مِن ذَلك، ولكنّي قَرأتُ مَرَّة -في جَريدة "الحياة"- مَقالاً للكَاتِب المُتألِّق "حسين أحمد أمين"، يَشتكي فِيه مِن سلُوك بَعض الطَّارئين عَلى الشِّعر والأدَب، حيثُ يَقول: (التقيتُ الإذَاعي الشَّاعر "فاروق شوشة" في مُناسبات اجتماعيّة عِدَّة، تَضمّ أُدبَاء و"مُتأدّبين"، وقَد لاحظتُ خِلالها أنَّه كُلَّما أخرَج أحد مِن الأُدباء الجُدد أورَاقاً مِن جيبه؛ ليَقرأ مِنها عَلى الجَمع قَصيدة جَديدة لَه، أكفَهرّ وَجه "فاروق شوشة"، وقَام مُهرولاً إلى الحَمَّام، وكَأنَّما ليَقضي حَاجة مُلحّة، فلا يَعود إلينا إلَّا بَعد أن أدرَك مِن الأصوَات التي تَصل إليه في مَلجئه، أنَّ التّلاوة انتهت، وأنَّ في إمكَانه الآن أن يَعود إلينا آمناً)..!
ويَرى "أمين" أنَّ تَصرّف "فاروق" هَذا -في وَاقع الأمر- لَه مَا يُبرّره (إذ لَيس ثَمّة مَا هو أدعَى إلى الامتعَاض مِن أن يَفرض أديب نَاشئ -أو حتَّى عنده شَيء- نَفسه عَلى جَمع مِن الأصدقَاء أو المَعارف؛ التَقوا مِن أجل تَبادل الحَديث، أو للرَّاحة بَعد يَوم مِن العَمَل، فيُسمعهم مَا قَد لا يَكون الكَثيرون مِنهم مُهيّئون لسَماعه)..!
وقَبل ذَلك قَرأتُ قصّة مُشابهة، مَفادها أنَّ الشَّاعر "عبدالعزيز البشري" اصطَحَب مَرَّة الشَّاعر "حافظ إبراهيم" للغداء عند "عبدالحميد التيّان"، وبَينما هُمَا عَلى سلّم الدَّار، أدركه الشَّاعر "الهراوي" مُهرولاً وهو يَصيح به: يا شيخ عبدالعزيز.. فلمَّا سَمع الشَّيخ الصَّوت، وعَرَف أنَّ صَاحبه "محمد الهراوي"، ألقى بنَفسه عَلى "حافظ" وهو يَستغيث قَائلاً: (الحقني يا حافظ، ده عَاوز يَسمّعني شعراً)..!
إنَّ هَؤلاء المُتطفّلين عَلى أوقَاتنا يَنتشرون كالجَراد المُنتشر، ويَسرقون بَعض دَقائقنا وثَوانيها المُهمّة، لَيس ذَلك فَقط، بل يُشوّهون أذوَاقنا، التي نُكافح لَيلاً ونَهاراً مِن أجل الحِفَاظ عَلى الحَدِّ الأدنَى مِن بَقائها سَليمة، بَعد أن لَوّثتها الفَضائيّات الطَّائرة..!
لقد كُنتُ مُنذ سَنوات -أقول مُنذ سَنوات- أُعاني مِن بَعض هَؤلاء الشُّعراء، الذين يُجبرون "فاروق شوشة" عَلى دخول الحَمَّام، لأنَّه في نَظره أرحَم وأبهَى مِن سَماع ذَلك الشَّعر.. ألم يُسمِّ الأخوة الأمريكيّون الحَمَّام (بيت الراحة - Rest Room)..؟!
مِن هُنا يَبدو أنَّه مَكاناً للرَّاحة مِن كُلِّ شَيء، حتَّى مِن الفَضَلات الشّعريّة الرَّديئة التي يُنتجها الشّعراء الفضُوليّون..!
لَن أُعدِّد هَؤلاء الشُّعراء الذين كَانوا -فِيما مَضى- يُزعجوننا مِن خِلال فَرضهم "الاستمَاع الجَبري" عَلينا، مِن خِلال تَسلّلهم في الفَجوَات التي تَحصل بين النَّدوات أو المُحاضرات، أو تسلّطهم في بدايَاتها.. لَن أذكر اسماً بعينهِ، فهَذا مِن "ثقيف"، وذَاك مِن نَسل "الشّريف"، وثَالث مِن "وَادي الصَّفراء"، ورَابع يَصلح لكُلِّ شَيء إلَّا الشّعر مِن "تبوك".. وغَيرهم، ممَّن يَجعلون مُهمّة ادّخار حَاسّة السَّمع حتَّى الستّين مُستحيلة..!
يَا أيُّها القَوم، يَا مَن تَخترقون هدوء نَدواتنا وأوقَاتنا بضَجيج شعركم، اتّقوا الله، ولا تجاهروا بردَاءة أشعَاركم، فالله –جَلّ وعَزّ- يَغفر ذنُوب عِباده إلَّا المُجاهرين..!
ولا تَكونوا كالإعلانات التلفازيّة التي تُفرض عَلينا، لذا نَستغل وَقت مَجيئها للذِّهَاب للحَمَّام أو إجرَاء المُكالمَات..!.
أحمد عبدالرحمن العرفج
Arfaj555@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق