الخميس، 28 نوفمبر 2019

خِطَاب الشُّكر فِي تَأبين الشِّعر ..!

خِطَاب الشُّكر فِي تَأبين الشِّعر ..!

مُشكلة العَربي أنَّه يُعاني مِن سُرعة التَّحديث، أو كَما هي لغة الفرنجة Updating، بمَعنى أنَّه يَلبس أجمل السَّاعات وأغلاها، ويَستورد أغلَى التّلسكوبَات والمَجاهير، ولَكنه في المَواعيد لا يَستخدم السَّاعة، بَل يَقول وهو يَرتدي سَاعة بعشرين ألف ريال: (أرَاك بَعد المَغرب أو بَعد العشاء)، وهي مَواعيد مَفتوحة لا تُشير إلى تَوقيت، وإنَّما تُشير إلى أفعَال..!
كَما أنَّ تلسكوبَاته الغَالية لَم تَخدمه في رُؤية هلال رَمضان، بَل مَازال يَعتمد في رؤية الهلال؛ عَلى أعرَابي طَاعن في السِّن، وقَد تَحلُّ شَعرة بَيضاء فَوق رموشه فيَظنُّها الهلال، ليَنطلق مُسرعاً إلى أقرب مَحكمة، ويُسجِّل شَهادته، طَمعاً في خَمسة آلاف ريال، ونصف دَرزن مِن شماغ البسَّام، ومشلح حَساوي مقصّب بألف ريال..!
هَذا العَربي الذي لا يُغيّر رؤيته للأشياء، يَقيس الزَّمن المُعاصر بمَقولات قِيلت قَبل مِئات السِّنين، وهذا القِياس يَقوده للخَطأ، كَما أنَّه يُخرجه مِن دَائرة الوَاقِع، ويَنتقل به مِن مَدينة الجغرافيا، ليَسكن في كهوف التَّاريخ..!
حَسناً.. بالمِثال يَتَّضح المَقال، لنَأخذ الشِّعر مَثلاً، الشِّعر فَن استحدثه العَرَب، وبَرعوا فِيه، وتَفنَّنوا في رسم صوره وأبعَاده، وهو بحَق كَان النَّاقِل الأمين لحياتهم وصورهم، وتَقاليدهم وعَاداتهم، لذلك يَقول "نيتشة": إنَّ الشِّعر أقدم دَليل عَلى وجود الإنسَان القَديم، والأدوات العَتيقة، إنَّه إلى حَدٍّ كَبير مِثل الخيمة، التي تَجاوزها النَّاس إلى المَباني الشَّاهقة، ولا يَستخدم النَّاس الخيمة الآن إلَّا مِن بَاب التَّسلِّي، أو التَّنزّه، أو الحَنين إلى المَاضي، لذلك مَا يَنطبق عَلى الخيمة يَنطبق عَلى الشِّعر، مِن حيثُ الأدوات القَديمة، ولَيس مِن خِلال المَشاعر والأحاسيس..!
إنَّ هَذا المَقال -باختصار- يُريد أن يَقول: إنَّ الشِّعر رَجُل، أو لِنَقُل فَن تَوفَّاه الله، ولَم يَعُد لَه قِيمة في نَقل المَشاعر أو الصّور والأحاسيس، طَالما أنَّ الكَاميرا والأفلام تَنقل لَنا مَا نَحتاج، وهي أكثر دِقَّة مِن مُبالغات الشُّعراء وأكاذيبهم، التي اشتُهِروا بها، لذلك قَال النقَّاد: (أعذب الشِّعر أكذبه)..!
حَسناً.. مَاذا بَقي..؟!
بَقي القَول: إنَّني مِن هَذا المنبر، أُعلن إقامة صَلاة الميّت عَلى الشِّعر، وأبعث مَعه في القَبر خِطاب شُكر أقول فِيه: شُكراً أيُّها الشِّعر، لقد أدّيتَ الأمانة، ووصفتَ الأُمَّة، ونَقلت الألم والأمَل، ولكن الآن الكَاميرات وآلات التَّصوير حَلَّت مَكانك، لذلك سنَقبل تَقاعدك غير المُبكِّر بُناءً عَلى طَلبك، لأن إخوتنا في الصِّين يَقولون: (صورة وَاحدة تُغني عَن ألف كَلِمَة)، أو كَما يَقول إخوتنا الإنجليز: Deeds, Not Words، أي أنَّ الشِّعر أقوَال، والكَاميرات والأفلام أفعَال، ونَحنُ في عَصر الأفعَال لا عَصر الأقوَال..!.

أحمد عبدالرحمن العرفج

Arfaj555@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

لكُلِّ مثابرٍ نصيب.. مِن دأب النجيب!