الشِّعر جُملةٌ صُغرى والنَّثر فضيحةٌ كُبرى ..!
لِذَا قَال "نزار": (النَّثر فضيحةٌ كُبرى)..!
وإنْ تَصوّر (بَعضهم) أنَّ الشِّعر أشدُّ وأنكأ، فلا يَغرنَّك قَولهم هَذا، لأنَّ الشِّعر يُغطَّى بالطّلاسم، ويُستر بالغمُوض، ويُعلَّب بالاستعَارات المَجازيّة والحَقيقيّة، بَل وبِمَا بَينهما..!
أمّا النَّثر فيفُصح عَن مَضاجعه، ويَنمُّ عَن صَانعه، فلا حَول لَه ولا قوّة، إلَّا بإدرَاك الفَصل والوَصل، ومَعرفة ضرُوب الخَبَر، مُراعاةً "لمُقتضى الحَال"..!
بَعد ذَلك يَسأل "سِين": هَل النَّثر فضيحة..؟!
نَعم، فضيحة، وأيّ فضيحة.. وهَل وَلغ النَّاس في مَسالك الزَّلل والالتبَاس إلَّا بعَورة النَّثر، وفضيحة الكِتَابة..؟!
خُذ مَا شِئت مِن هذه الأعمدَة، التي تَسيل بهَا أعنَاق أقلام الكُتَّاب، لتَرى عَورات الأقلَام، وكَبوَات اليرَاع..!
ولَك أن تَتخيّل كَيف يُستقبل الرّجل بهَيئته، ويُودّع بنَثره، ويُحترم بمَدى عَلاقته بالنَّثر، مَلفوظًا أو مَكتوباً..!
أُقلِّب "القَلب"، وأُردّد بخشُوعٍ أصفَر قَولهم:
فتشبّهوا، إنْ لَم تَكونوا مِِثلهم
إنَّ التَّشبُّهَ "بالكِرامِ" فَلاحُ!
أُقلّبه بذهُول نَحيل، وأسأل عَن "الكِرام"، أين، ومَن، وكَيف نَعرفهم، لأنَّ قَواميس اللغة قَد تَنقسم بِضْع وسَبعون شُعبة، كُلّها تُقدِّم لَنا تَعريفاً مُختلفاً في وَصف "الكِرام"..!
إنَّ التَّشبيه في أوضح صوره استنسَاخ أبله، وقد اختصَر الشَّاعر الكَبير "جوته" حَالات التَّشابه والتَّماثُل والتَّقارب، بمَقولة جَريئة، حين جَعَل الرّجولة أُخت التَّفرُّد، وشَقيقة الاختلَاف، ألم يَقل: (كُن رَجُلاً، ولا تَتبع خُطواتي)..؟!
دَائماً نَحفظ الشَّواهد، التي تُعاضد آرَاءنا، وتُساند أقوَالنا، فلا عَجب أن نَحفظ الشّيء وضدّه.. قَد يَكون الأمر إلى هُنا مَقبولاً، مَسموحاً.. لَكن مَا يَعضُّ الفُؤاد، ويُحزنُ الرَّاصد، ويُوجعُ المُتابع، مُحاولة رَمى (الأخطَاء عَلى الآخرين)، عَبر دَلالة تَمنَع استِيقَاف النَّفس، ومُحاسبَة الضَّمير.. أُعطي مِثالاً يَسيراً.. يَقول أحدهم:
يا مُقلتي، أنتِ التي
أوقعتني في حُبِّهِ
غرّتكِ رِقةَ خصرهِ
ونسيتِ قسوةَ قلبهِ!!!
وهَكَذا (نَسير في وَادي الحَياة)، ولَستُ في حَاجة إلى أن أقول: إنَّ مِثل هَذه "التَّبريرات"، و"المُسكِّنات"، و"المُهدِّئات" تَجعل الإنسَان يَغط في سَباتٍ عَريض، قَرير العَين، سَاكن الضَّمير..!
أُصفِّق بنَشوة عَارمة لمِثل قَولهم:
تَعجبين مِن سَقمي
صحّتي "هي العَجبُ"!!!
نَظرةٌ للبُؤس مِن فَتحة المُتعة والرَّاحة.. كُلّ القَوم يَستوقفهم "العَناء"، إلَّا "هَذا"، فالصَّحة تَرمي بغلَالها عَلى وَجهه فيَرتدّ حَائراً مَبهوراً..!
إنَّ الدَّم سَائلٌ أحمَر، لا يَملك مُقوّمات الإثَارة، ولَكن مَا يُثير حقًّا، مَعرفتنا السَّابقة في مَوقع الدَّم، مِن خلال وَرم الشَّرايين، وانتفَاخ الأوردة.. (إِنَّ المَعارِفَ في أَهلِ النُهى ذِمَمُ)..!!!
أحمد عبدالرحمن العرفج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق